• عدد المراجعات :
  • 1307
  • 2/25/2015
  • تاريخ :

التهيّوء لساعة الموت

نهج البلاغه

كوننا نحن مومنين بالحياة بعد الموت وأنّه ليس فناءاً وأنّه قنطرة نعبرها إمّا الى جنّة وإمّا إلى نار- كما عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "الموت الموت ! ألا ولا بدّ من الموت،جاء الموت بما فيه، جاء بالروح والراحة والكرّة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه بالشقوة والندامة وبالكرّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور، الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم"1، وعن أمير المومنين عليه السلام: "وما بين أحدكم و بين الجنة أو النار إلّا الموت أن ينزل به، و إنّ غاية تنقصها اللحظة، و تهدمها السّاعة، لجديرة بقصر المدّة، و إنّ غائباً يحدوه الجديدان: اللّيل و النّهار، لحريّ بسرعة الأوبة، و إنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشّقوة لمستحقّ لأفضل العدّة، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً"2 - إذا كان الموت هكذا بهذه الخطورة والمصيرية ينبغي لنا أن نتهيّأ لتلك الساعة التي لا مفرّ منها لأيّ أحد.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "وبادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله"3.
فالإنسان الحكيم لا يغمض عينيه عن الأمور الخطيرة والمصيرية ولا يفعل كالنعامة التي تضع رأسها في التراب متوهّمة أنّ الذئب الآتي إليها لن يفترسها!
الإنسان الحكيم يتهيّأ للأمور الخطيرة والمصيرية ولا ينساها ولا يتناساها لأنها لا تنساه.
فالموت لا ينسانا وإن نسيناه أو تناسيناه "وكيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، وطمعكم فيمن ليس يمهلكم؟".
التفكّر بالموت:إنّ الله تعالى كما أنّه خلق الحياة كذلك خلق الموت: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور﴾4.
فالإنسان المومن عليه أن يفكّر في الحياة الدنيا وفي الموت الذي هو قنطرة للحياة الأبدية الباقية: ﴿كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.﴾5.
ولكنّ الموسف أنّ الإنسان يفكّر في دنياه الزائلة ولا يفكّر في الموت الذي هو باب إلى الآخرة الى الحياة السرمدية، بل إنّ التفكير بالموت له تأثير على حياته الدنيوية فضلاً عن آخرته.
فإنّ وجهة نظر الإنسان نحو الموت وما بعده مهمّة جداً في حياته، فكلّما كانت نظرته واقعية وموضوعية وصحيحة، كلّما كانت حياته سعيدة ونشطة ومتحرّكة ومتفائلة، والعكس صحيح أيضاً.
فتركيبة الإنسان النفسية ومن ثمّ سلوكه وأخلاقه تتأثّر جداً من خلال نظرته إلى الموت وما بعده.
فليس التفكير في الموت وما بعده أو بالأحرى ليس الاعتقاد بوجهة نظر معيّنة تجاه الموت وما بعده فكرة عابرة تمرّ بالخيال وترحل، ولو حاول الإنسان أن يخرجها من خياله وشعوره، فإنّها ستنزل رغماً عنه إلى لا شعوره وعقله الباطنيّ وكيانه النفسيّ وتطبعه بطابع معيّن إمّا سلباً أو إيجاباً.
فعلى هذا ليس التفكير في الموت وما بعده موتاً بل حياة، أي له دخالة في حياة الإنسان وبنائه الروحيّ والنفسيّ والعقليّ.
وأنتم إذا دقَّقتم جيداً ستعرفون؛ أنّ الإنسان إذا كانت نظرته إلى الموت على أنّه فناء ستكون تركيبته النفسية معقّدة خائفة متشائمة مضطربة مستهترة متحلِّلة، أمّا إذا كانت نظرته على النقيض من ذلك واعتقد بأنّ الموت ليس انحلالاً تامّاً ولا فناءً محضاً، إنّما حياة ثانية لها نكهتها الخاصّة، فستكون حياته النفسية وتركيبته الروحية متفائلة مطمئنة ملتزمة.
اكتشاف ما بعد الموت يحيي أمماً وأفراداً
يقول بعض الفلاسفة: "إنّ اكتشاف الموت هو الذي ينتقل بالشعوب والأفراد إلى مرحلة النضج العقليّ أو البلوغ الروحيّ"6.
صحيح قول هذا المفكّر وتويّده الوقائع التاريخية، وللتدليل على هذه الفكرة نعطيكم مثالاً واحداً.
كان أكثر الأمّة العربية قبل الإسلام منكراً للحياة بعد الموت، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون﴾7.
﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيد﴾8.
﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُون﴾9.

فكيف كانت حياتهم؟ كانت حياتهم حياة جهلٍ وتخلّف وتبعيّة، ولكن عندما جاء الإسلام، وغيّر نظرتهم إلى الموت وما بعده، تغيَّر العرب تغيّراً جذرياً، فانطلقوا في الدّنيا بكل انشراح وقوّة وغيّروا مجرى التاريخ بعد أن كانوا هملاً.
فيتبيّن ممّا مرّ أنّ ذكر الموت والتفكّر فيه وعدم نسيانه ضروريّ للفرد والمجتمع، فهو صمّام أمان للفرد، ودفع للمجتمع للتغيير، فشتّان بين من يحسب الموت فناء ومن يقطع بأن الموت حياة أخرى، فالأوّل جبان كما عليه اليهود ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾10، ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾11، والثاني شجاع كما عليه أبناء الإسلام.
ولهذا الاعتقاد درجات يترقّى فيها الإنسان حتّى يصبح الموت بالنسبة له أمراً عادياً على حدّ تعبير الإمام عليّ بن الحسين : "لا أبالي وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا".

المصدر:جمعية المعارف الإسلامية
1-جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج14، ص 60.
2-نهج البلاغة، الخطبة 64.
3-م. ن، الخطبة 190.
4-الملك: 2.
5-البقرة: 219 ـ 220.
6-انظر: تغلب على الخوف، مصطفى غالب، ص‏74..
7-الجاثية: 24.
8- السجدة: 10.
9-الصافات: 47.
10-البقرة:96.
11-الحشر:14.


الفصاحة والجمال في نهج البلاغة
بلاغة الإمام علي عليه السلام
عقله الجبار ينظم عاطفته

طباعة

أرسل لصديق

التعلیقات(0)